عراقي، وسفة دقار عملاقة، كلمة «علي الطلاق»، يبدو وكأن هذه العناصر المظهرية الثلاثة أركانا لشخصية كائن تاريخي مشهور في هذه الأيام بلقب جماعي، أب جيقة. هدفنا ليس اقتناص حماقاته، بل فهم المستنقع الذي ينمو فيه ويزدهر، لأنه وبدون هذا الفهم، لن تجد مسألة تحرر النساء منفذا للنصر، فأب جيقة عدو هذه القضية الأول، أو هكذا يبدو للوهلة الأولى، ولن نخرج من 8 مارس سوى ببعض الصور والهتافات بينما تتراجع السياسة والمطالب إلى المرتبة الثانية. هذا مما لا يجوز بعد أن أصبح لنا ميثاق.
من هو أب جيقة؟
لماذا ظهر الآن بالذات في سياق صعود الثورة؟ لا بد من نقطة بداية، نختار أن تكون الأرقام والحقائق الصلبة. من الأرقام، ومما نعيشه، نستطيع القول بدرجة وثوق كبيرة أن أزمة مدمرة تصيب كل مؤسسة في السودان، مؤسسة الأسرة أيضا في أزمة هائلة، مثل المؤسسات الاقتصادية والسياسية والعسكرية والأكاديمية. حسب الأرقام، وقعت 7 حالات طلاق كل ساعة في السودان سنة 2020م، بمجموع 600 ألف حالة طلاق على الأقل لأن هناك طلاقات تنتهي وديا دون الوصول للمحاكم. وبالتأكيد زاد هذا العدد في السنة الماضية. اذا افترضنا أن كل أسرة كانت تحوي 3 أطفال فهذا يعني أن هناك مليون و 800 ألف طفل وطفلة على الأقل يعيشون في أسرة تعرضت للانهيار ولن تظهر تبعات ذلك السلبية، النفسية والسلوكية، إلا بعد سنوات من الآن. هناك من يلقي اللوم كالعادة على الضحية ويقول أن النساء هن السبب لأنهن «نقناقات» و«غير مقدرات للظروف» أو «متطلبات»، وهذا طبعا من هراء القول. فلو كانت الأمزجة الفردية المستعرة تتسبب في الكوارث الاجتماعية لكان الحل سهلا: حسن مزاجك تتحسن حياتك، وهذا من هراء التنمية البشرية لا وعي الثورة. هناك أسباب عميقة للشحن النفسي وضيق الأخلاق، ليس منها قلة التقوى أو افتقاد الروح الإيجابية، بل موجودة في قلب السياسة التي تنفذ في الاقتصاد والحكم الآن. إن انهيار سوق العمل، ونقص الأجور، وغياب الخدمات الأساسية المضمونة من سكن وطعام وعلاج وتعليم وكهرباء، يضغط مؤسسة الأسرة حتى تصل إلى نقطة الانهيار لأنها عاجزة عن الاشتغال تحت هذه الظروف. كيف تتماسك الأسرة إذا كان كل أفرادها البالغين والصغار يعمل دون أن يتمكنوا من تلبية حاجاتهم؟ ودون أن يجدوا برهة زمن للحديث أو تبادل الدعم؟ غرقت الأسرة بسبب سياسات الكيزان الاقتصادية في بحر من الحسابات المادية الخالصة وانهارت هالة التقديس التي كانت تكللها، وتوفر لافرادها الحماية، وترسم السلوكيات المتوقعة والأدوار الاجتماعية لكل نوع اجتماعي يلعبه كما تنص تقاليد معينة وموروثة: الرجل يكسب القوت والمرأة في المطبخ تطعم وتكسي وتخيط، والأبناء يطيعون الكلام بدقة عسكرية. لم تكن أسرة الماضي بلا مشاكل، لكن هناك قواعد مفهومة لدى الغالبية واعتادوا عليها لزمن طويل. تخلخلت هذه الأسرة الحضرية «انهيار الأسر في الريف أكثر تعقيدا، يحتاج بحثا منفصلا» مع نهاية ظروف العمل والحياة المعهودة. مع البنك الدولي، لم يعد أجر الذكر يكفي الأساسيات، والمرأة كان ينبغي أن «تتصرف» لتغطية العجز لا تكتفي بمصروف الزوج لتسيير المنزل، هذا إن وجد أصلا. كان لذلك نتيجة متناقضة: انتهى عهد الرجل كاسب العيش الأوحد، ودخلت المزيد من النساء إلى سوق العمل، نعم، تحت ظروف سيئة وأجور ومدخولات ضعيفة للغاية، ولكن دخولها هذا بدأ ينخر في فكرة الراجل «أبونا» الذي يعول الأسرة وحده لأنه «راجل» كده خلاص، وتضعف من مشروعيتها الموروثة. الآن، أصبح هو وهي على نفس المركب المتأرجح والمهدد بالغرق في كل لحظة. لم تنته هذه الفكرة فورا، الأحداث تسبق دائما التفكير حول الأحداث، إن الأفكار لا تتغير إلا بعد زمن من حدوث الحوادث، بقيت في الأذهان، وأنتج ذلك أزمة رهيبة في نفوس الذكور الذين لم يتمكنوا بعد من استيعاب ما حدث: بدأت مكانتهم المهيمنة التي كانت تحميها شروط عمل معينة تتآكل، وبدأت روح استقلالية جديدة لدى النساء عموما وحتى عند أطفالهم. استمر تداعي الأسرة القديمة لزمن طويل استغرقه حكم الكيزان، الذين كانوا يتعاملون مع مسألة الأسرة المتداعية من المنظور الأمني. مع غياب الأبوين الطويل من المنزل توفر للاطفال والمراهقين زمن طويل للتفاعل مع محيطهم وتبني سلوكيات جديدة لم تجد القبول من الآباء والأمهات، ولكنهما في ذات الوقت عاجزان عن تربية الأطفال بالطريقة القديمة، بالطاعة والأوامر، فقد أصبح فرق التفكير بينهم أوسع من البحر. وأنهى الاستغلال الفائق للعمل سيطرة الأسرة القديمة على الأطفال: فأين وقت الفراغ الضروري للتربية الأسرية بينما يمتص العمل كل ثانية بلا كلل؟ هل سيتخلى أصحاب العمل عن عمالهم من أجل تربية أطفال العمال؟ لا طبعا. ويجب التشديد في مجابهة تيار غير تاريخي: هذه الأسرة القديمة الحضرية مرسومة الأدوار كانت لها مشاكلها الخاصة، ونحن أبعد اليوم عن النظر إليها برومانسية الماضي الجميل، كانت أيضا سجنا بطريقة مختلفة، حل محلها سجن جديد محروس بالجنود.
ومن انهيار آليات الضبط الاجتماعي التي كانت تمارسها الأسرة سابقا، استغل الكيزان الفراغ. ضربت الدولة على وتر «الذعر الأخلاقي» وشرعت في نشر خطاب «انفلات الشباب» و«التردي الخلقي»، وأنشأت أجهزة حكومية مهمتها مراقبة المراهقين واللبس وقصات الشعر وتجمعات الترفيه، لتطمين الأب والأم أنهما يمكن أن يذهبا للاستغلال. المضني وهما «مطمئنان» على أن العيال في حرز الدولة، تربيهم هي بالبوليس والقانون والرفع في البكاسي. كانت تقول «امشوا لاستغلالكم وانتم مطمئنون، أبنائكم في حراسة الدولة الرسالية حامية حمى الأخلاق، تكبيير!». إن «قانون النظام العام» وبنود القانون الجنائي ضد اللبس وحملات الكشة ضد محلات البلياردو وأندية المشاهدة ليس إلا مظهر التعامل الأمني مع قضية انهيار الأسرة التي تسببت سياستهم، دولة بالذات، في مفاقمتها. والأخلاق التي تدعي حكومة البشير أنها كانت تحاول الدفاع عنها نفاقا ليست في سياستها إلا عملية تضليل مقصودة: حركة منافقة لتبرير استغلال البالغين من جهة، وقمع التمرد السياسي للشباب من جهة أخرى، بأسلوب يحاول استغلال ذعر الناس من انهيار شروط حياتهم وتحويله بعيدا عن مصدره الحقيقي، الاستغلال والقمع السياسي، وتوجيهه نحو هدف بعيد وهمي، يسمح بتبرئة النظام القائم من مسؤوليته، وبالتالي محاولة الهروب من الثورة.
بعد أن سقط بشة، بقيت عناصر من خطاب حماية الأخلاق المنافق فعالة جزئيا، وبصورة باهتة. الممزقون بين ضفتي هذا الصدع الرهيب، بين الفكر والمعاش، بين الماضي والحاضر، بين الظروف الملموسة والثوابت الفكرية، هم شلة الشخص الذي نطلق على الفرد منهم «آب چيقة». انسان يعيش وذهنه في الماضي وجسده في الحاضر، يدافع عن الأسرة «زمان» قبل البنك الدولي، ويطمع في حاضر لا يلزمه بالصرف على أحد، يريد الاثنين سويا. يدافع عما يراه ثوابت: الذكور يتفوقون على الإناث هكذا بالسليقة والمولد، فهو ذكوري، والنساء وإن خرجن للعمل فإنه لا زال وليهن وله حق الوصاية عليهن، فهو سلطوي، وأن من حقه الحصول منهن على ما يريد وقت ما يريد بأية وسيلة، فهو معتد وربما يتحرش أو يغتصب حتى. أب جيقة هو الماضي الذي يرفض أن يموت بسهولة، هو عجز التكيف الإيجابي. مذبذب بين مال زوجته أو أخته أو امه العاملة الذي يريد اقتناصه، وبين الرغبة اللاواعية في دفنهن في التكل وذهابه هو للشغل، وتعود الدنيا حلوة زي زمان. لمثل هذا يقال ااااعع وين يا، الدنيا نيوليبرالية يا العشا بلبن. وتمزق آب چيقة يعبر عن نفسه في حقل السياسة في النسخة الأوضح بمعاداة شديدة للنساء، وبعنصرية مقيتة، وكره للثورة التي «طلعت لينا الحاجات الغريبة دي». يجهل أب جيقة طبعا أن الظواهر الجديدة تنشأ في أحشاء القديم حتى تقده وتخرج بعنف وقوة، وأن حكم الكيزان هو الذي فتح الباب أمام بروز قوة النساء السياسية، وإن كان يقصد العكس تماما. أب جيقة هو تعبير عن أزمة نظام الإنقاذ الكامنة في جذوره، والعاجزة عن حل مسألة الأسرة حلا ثوريا، أي انسانيا، على أساس الحق المتساوي للرجال والنساء في تحديد مصيرهم بقوة العمل الجماعي. الآن، ذهبت الإنقاذ وأصبح «أب چيقة» وجها لوجه أمام أزمته الشخصية، أزمة أسرته، أمام هشاشة وضعه المادي، أمام فقره الروحي، وجهله، أمام تحطم كل سلطة قسرية وطموح الناس لاختراع سلطة يسيطرون عليها ولا تسيطر هي عليهم، وهو لم يكن مستعدا لكل هذا، فقد أوكل أمره كله منذ وقت طويل للوضع الراكد وقت الكيزان يحمونه ويوفرون له الحجج والتبريرات وبعض الراحة النفسية الزائفة والعابرة.
ولكن اتهام «اب جيقة» في شخصه بأنه «متخلف» و«رجعي» وحدها لا تكفي، مع أنها تصف في تسعة حالات من أصل عشرة. «أب جيقة» ليس فردا، هو قوة اجتماعية موروثة من الماضي تعبر عن نفسها بسلوك أشخاص، قرروا، بذاتهم، أن يستسلموا لهذه القوة الاجتماعية دون نقد أو مقاومة، فاصبحوا لسان حالها. «آب جيقة» هو الماضي يرتدي أجسام أشخاص، بالتلبس، مثلما يحل الجن الكلكي على أجساد المساخيت. شخصنة أزمة الثورة مع «اب جيقة» تنتهي بتجريم سطحي من شاكلة «كل الرجال ما نافعين» و«المرأة عدو بنات جنسها» لا معنى لها في ميزان القوى السياسي، ولا فائدة لها في حرب التحرر الاجتماعي. فقط النقد الذي ينتهي بخلع رداء العظمة الزائف الذي يرتديه «أب جيقة» ويكشف أنه عار وضعيف مضطهد، نقد يضعه في موقف الحقيقة، ويكشف له أنه محبوس في سجن زين الكيزان جدرانه، لا لنجعله يعيش في سجن كئيب بلا زينة، ولكن لكي يحطم جدران السجن كلها، ليخرج ويسنشق الحرية التي اخافه الكيزان ومئات السنين من الفكر الرجعي منها. وفي معركة كهذه، هناك احلاف يجب أن تبرم. جماعات الذكور ليسوا كلهم من نسل اب چيقة وليست كل امرأة بيولوجيا من أعدائه، ليست القضية بالجنس، بل بالوعي. هناك ذكور رفضوا هذا العالم ويريدون المستقبل، ولا زال هناك نساء يحلمن بالذكر أب شنب أكال العنب. أب جيقة هو أزمتنا، مرة كامنة تحت غطاء الثورية التي تريد أن تواصل في ممارسات الماضي برداء عصري، ومرة صريحة بطلب الردة الكاملة إلى ماض انتهى ولن يعود. انتي، وأنت، ذكورا أو اناثا، لا زال في كل منا أب جيقة، لأن الماضي لم ينته بعد طالما ظل الاستغلال وبرهان في الحكم، ومقاومة الماضي والاستغلال والبرهان هي فقط من سينتهي من أب جيقة، المختبئ والصريح. ومن مصلحة الرجال ومصلحة الجميع أن تنتهي «الذكورية» التي يعبر عنها أب جيقة، والذكورية لا تتعلق بالشنب، هي ممارسة ترفض بناء الحياة على اساس المساواة والندية والإخاء بإدعاء تفوق الذكر على الأنثى، هكذا بالمطلق، وهي بالتالي شقيقة العنصرية، وإبنة شرعية للقمع السياسي والاستغلال. هذه الظاهرة لا تزيد الذكور سوى بأعباء لا يطيقونها وتكلف المجتمع عنفا يهدف لجره نحو ماض مستحيل. القضاء على أب جيقة من مصلحتنا وهو قضاء على ماض الكيزان ونصر للمستقبل، وهو لن يتم إلا بسياسة ثورية في الخدمات الأساسية، بقانون إنساني للحقوق الشخصية، بتجريم التحرش والاغتصاب والنضال الثقافي ضد تبرير هذه الأفعال، تنشأ الحياة الاجتماعية والاسرة من تربة إنسانية جديدة يعود فيها الحب شرط الاقتران والحياة المشتركة. من مصلحة الثورة والنساء والشعب القضاء على أب جيقة، ولكن بصبر، ففيكم شيء منه، المقاومة ضده واجب، ادفنوا آب جيقة، ادفنوا البرهان، ننتصر!.