يمكن لكل ذي عقل أن يستنتج خطة الأحزاب والمليشيات الانتهازية مما تفعله منذ 2019م. الخطة تقوم على مبدأ واحد أساسي: المناصب.
التبرير لذلك يختلف من حزب أو مليشيا إلى أخرى. ولكنه لا يخرج عن التالي: دخول أجهزة الحكم في مواقعها العليا في المرحلة الأولى. وبعدها استخدام هذه المؤسسات والأجهزة في تنفيذ ما تريده في مرحلة ثانية. المنصب ليس غرضا في ذاته بل هو السبيل الوحيد لتنفيذ اجندتنا، هكذا يتحدثون.
ولكن الصعوبات العملية مختلفة جداً عن هذا التبسيط المخل والكاذب. دعونا نتابع مايجري منذ اليوم الأول حتى النهاية.
بمجرد أن يدخل القحاتي أو قادة المليشيات إلى مؤسسة ما في موقع المدير، ويتوهط على الكرسي الوثير، سيجد عدداً من الموظفين اعتادوا على طريقة معينة للعمل منذ بناء المؤسسة، وقامت أجهزة التعليم العام والعالي بتدريبهم على أداء مهام بطريقة محددة. ومع مرور الزمن تصبح العادة أساس تفكير هؤلاء الموظفين ويترسخ نوع من الثقافة الداخلية غير المكتوبة، أعراف وتقاليد راسخة. عندما يطلب المدير الجديد القحاتي تغيير طريقة العمل تلك، واستبدالها بشيء خارج المعتاد الذي ترسخ في اذهان الموظفين، فإنما يطلب منهم المستحيل: لا يسمح لهم تدريبهم بتنفيذ رغباته، والروتين المعتاد هو أعظم العقبات أمام التغيير لأنه يصبح جزءا من التكوين النفسي والعقلي ومن المستحيل، نعم من المستحيل، اجتثاثه بمجرد قرارات وتوقيع من المدير.
ويجد هذا المدير القحاتي أو المليشياوي الجديد شيئا آخر لا يعلمه من في الخارج: راتب وحافز وبدلات وقوة لتعيين من يريد وميزانية مكتب خاص كاملة، باختصار فرصا للفساد بلا حدود. اسألهم، هؤلاء الذين كانوا في السلطة قبل الانقلاب: كم كان راتبك وبدلاتك وميزانية مكتبك وعدد الذين عينتهم لأنهم اصدقاؤك وعشيرتك وأعضاء حزبك؟. لا إجابة. سيتحجج الواحد منهم أن كل ما تم قد جرى بموجب القانون. وهذا صحيح، لقد وضع الكيزان قانون مخصصات شاغلي المناصب الدستورية لسنة 2001م وهو موجود على النت للجميع لمن أراد الزيادة، وضعوه من أجل تقنين السرقة، فعندما يسيطر اللصوص على الدولة يصبح النهب هو المبدأ الدستوري الأول. القحاتي والمليشياوي لا يتحدثان ابدا عن هذا القانون ولم يحاول أحد أبدا إلغاء امتيازات ذوي المناصب. وبعد سنوات من المتاعب والمطاردة ينظر المدير الجديد إلى هذه السرقة باعتبارها تعويضا عن سنوات (النضال؟) ولسان حالهم يقول زرعت يا
مناضل فحسن حصادك!
القسم الثالث من المعضلة هو في حدود ممارسة السلطة التي تملكها المؤسسة الحكومية ذاتها. مثلآ، يريد المدير القحاتي الجديد ذو النوايا الحسنة بعد تعيينه وزيرا للتربية والتعليم أن يبني دخشمية فصل إضافي لخدمة النازحين. فكرة جيدة، ولكن كيف ينفذها؟ يحتاج طبعآ إلى المال. وزارة المالية تقول له: لا توجد اعتمادات كافية. وكفى. تنهار الأحلام عندما يكون الأمر متعلقا بالسلطة الفعلية؛ الحقيقة أنه لا سلطة فعلية إلا لمن يملك قرار التحصيل والإنفاق، وزير المالية. وهو أيضآ لا سلطة له إلا بقدر سلطة الذين أعطوه المنصب من كبار أصحاب المال والسلاح والمؤسسات الاقتصادية الدولية.
الدرس هو أن(المؤسسة) ليست شيء في ذاتها تحمل أسرار نجاة الثورة وتنفيذ ما تريد. المؤسسة الحكومية هي نتيجة علاقات بين المال والسلطة، هي عقدة في حبل، جزء من كل أكبر، مساحة التغيير بواسطته، أو تغييره هو في نفسه، أكبر من قدرة أي مدير أو وزير مهما كانت قدراته. البدوي، خبير المشارق والمغارب في شؤون الاقتصاد الكلي والجزء وما بينهما وضع سلطة الاقتصاد في يد لجنة طوارئ اقتصادية برئاسة المليشياوي حميدتي الذي، حسب منطق البدوي نفسه عن الكفاءة والتأهيل الأكاديمي، لا يملك دكتوراة في الاقتصاد والنقد، ولكنه سكت عن ذلك، لأنه يعلم كأي قحاتي آخر أن الوزير والمدير لا قدرة لهم أمام شبكة أصحاب السلاح والمال.
في الدقائق الأخيرة، يكتشف القحاتي أن الأمور ليست كما كان يتصور. يحاول تمشية الأمور بالحد الأدنى، يحاط بشلة من المعر*ين حوله يزينون له أفعاله ويفتحون له الأبواب ويحملون عنه الشنطة ويأتون له بالقهوة في مواعيدها ويطلبون الطعام الذي يشتهيه، ويبدأ الراتب العالي والعربة المكيفة في تليين جلده التخين، يصبح حساسا للنقد، يغضب من كل كلمة لا تشكره، يتحجج عمد فشله بأن القرارات ليست في يده، ويلقي باللوم على كل شيء وكل أحد سوى نفسه، وتتكون له علاقات جديدة من أصحاب المال والسلاح والدبلوماسيين الأجانب، يرى في نفسه الآن جزءا من جماعة أخرى، رايقة وراقية، مهذبة، على عكس الرعاع الذين يقفون على باب وزارته محتجين على قصور الأداء. يبدأ في تجنب مشاهدتهم، ينعزل عما يجري في العالم الواسع ويكتفي بعالم السلطة الضيق الجديد، يصاب بالتخمة، يصرح في الجرائد باقوال لا معنى له، ويحاول الدفاع عن نفسه ويلتقط أي انجاز مهما كان ويحاول تصوير أنه أتى بما لم تأت به الأوائل، وعندما يقابل بصيحات السخط والغضب، ينفعل، يتصبب عرقا، يبدأ في الصراخ ويهاجم
المحتجين أنهم لا يفهمون، وأن هناك قوى سرية تدفع لهم ليزعجوه، وأنه باق هنا في نظام حكم قاوم تغييره، لأنه الآن جزء منه. في نهاية حزينة، قحاتي 2021م هو كوز 2001م.
عندما يخرج الوزير من منصبه يصاب بالغم، ويصبح بلا طموح له سوى العودة إلى الكرسي في أقرب وقت. (انفلونزا الكراسي) هو تشخيص هذا المرض. وفي سبيل ذلك لا مانع من التحالف من الشيطان نفسه، مع عدو الأمس. يمكن له أن ينتقد شاغلي المناصب اليوم بما كان يفعله هو نفسه حينما كان في كراسيهم، انظر مثلآ كيف يتهم الكيزان القحاتة أنهم كانوا يديرون ملف التعيينات على أساس المحاباة الحزبية لا الكفاءة! أمام مثل هذه الانتهازية لا يملك الشخص سوى أن يستعمل أسلوب الكتابة على واتساب: هههههههههههههههههه، بالله؟.
الدرس هو أن المؤسسات تنشأ لخدمة مصالح محددة، وتعمل ضمن سياق معين، وتعمل على تدعيم هذا السياق، دخول المؤسسات لا يغيرها، بل يغير الذين يدخلونها. النظرية تقول ذلك، الممارسات تثبت ذلك، الحس السليم يدعم ذلك. وعندما تسمع استراتيجية ثورية تعتمد على نظرية خش وغير من جوه مهما كانت براءة من التبعية للقحاتة تذكر ذلك. نأتي الآن للمقترحات الواردة على الساحة هذه الأيام مثل مقترح برلمان ثوريفي سياق الوضع الحالي. في ظل سيطرة البرهان على الخارجية والسلاح والمال وتحت خدمته القحاتة والكيزان والمليشيات، كل الثلاثة، سيكون هذا الشيء مجرد ادبخانة كما يراه القحاتة والانقلابيين وقادة المليشيات. نظريتهم : دعونا نمنح هؤلاء الغاضبين مكانا للتنفيس، يجو البرلمان يفكوا زعلهم فوق منابر الخطابة ويملوا الدنيا كواريك زي ما عايزين، وفي النهاية نقول ليهم عليكم الله آخر زول طالع يقفل الباب وراهو ويخت لينا المفتاح عند غفير قصر الشباب والأطفال! ما تنسوا بالله، وعندما ينعم بعض عناصر اللجان بامتيازات الدستوريين، ويعثر عليهم حارقو البخور وينزلون عند كل رغبة لهم، وينسون ركوب حافلات اللفة التي تمزق البنطلون في كل رحلة ويحل محل ذلك الكامري والجكس وارد دبي، سيتحول ترس 2023 إلى نسخة محدثة من قحاتي 2021 الذي هو تحديث على نظام تشغيل كوز 2001، وكأن مؤسسات السلطة لا تنتج سوى المسوخ، سوى المصابين بانفلونزا الكراسي.
الحل؟ دعونا نأخذ شهادة من لا يشك في نزاهته أحد. قال مولانا القاضي زمراوي في استقالته من لجنة إصلاح الأجهزة العدلية أن إصلاحها هو أمر مستحيل. وهي موجودة للجميع لمن أراد الاستفاضة. ليس مولانا وحده من يقول بذلك، يتشارك كل ذوي العقل والضمير والارادة الثورية هذا الاستنتاج؛ فات الوقت، ترقيع ما هو موجود لا يكفي، ولا يجدي، عدا عن كونه غير ممكن أصلا. هذه أجهزة ومؤسسات السياق الذي يشرع الإستغلال والقتل والنهب والافلات من المحاسبة، كلها، بدون استثناء. توليد سياق مختلف للتضامن والتعاون والتنمية والمحاسبة يستدعي أجهزة جديدة، مؤسسات تنهض في مكان ماهو موجود الآن، هدم ومن ثم بناء، لا
حل آخر.
المقال القادم: من أراد مناورات الاجتماع واجهناه بقوة الشارع! الميثاق الثوري فورا بمن حضر!