مرت أربعة سنوات منذ انطلاق الثورة. على بعد أيام قليلة من افتتاح السنة الخامسة، هناك حسابات يجب أن تصفّى، وأخطاء ينبغي أن تصحح، ومناطق مظلمة تتطلب إلقاء الضوء عليها، وخططاً يجب رسمها وبناء القوة لإنفاذها، باختصار، نحن ندخل طوراً يصح أن نسميه، بلغة عسكرية، باسم “إعادة التسلح”.
يجب أن نعرّف المرحلة التي قلنا أنها انتهت، من حيث الزمن، والعناصر، والعلاقات التي كانت تميزها، ونستنتج تلك الجديدة التي برزت لتوها.
تمتد المرحلة المنتهية منذ انطلاق الثورة في ديسمبر 2018م وحتى الاثنين 5 ديسمبر الماضي. كانت هناك فترات انقطاع وركود، وأحياناً حل النشاط الفائق السريع محل التباطؤ، ورغم ذلك بقيت العلاقات كما هي: “قيادة” الحركة الثورية بقيت في يد عناصر مترددة، تنتمي بعضها للأحزاب، وتمتد لتشمل الفئة الموظفة في قطاع مهم للغاية، قطاع الخدمات السياسية والإعاشية الممول دولياً. يخدم هذا القطاع ثلث السكان وهو من يوفر لهم طعامهم ويغيثهم عن حلول الكوارث نعني بـ”القيادة” هنا القدرة على فرض الأجندة السياسية السائدة على الساحة، واستبعاد أخرى، والتأثير في مجرى الموجودة، وما يتبع ذلك من تأثير مباشر أو غير مباشر على وضع التكتيكات اللازمة لتنفيذ هذه الأجندة. لا تتعلق القيادة بوجود فيزيائي لعناصر بذاتها، تنتمي إلى هذا الحزب أو ذاك، أكثر مما ترتبط بالنفوذ الفكري والمعنوي، والإلهام المعنوي، وإنفاذ القرار. مرّت مرحلة وسيطة، منذ بدأت عمليات صياغة ميثاق يأتي من تحت إلى أسفل بعد انقلاب 25 أكتوبر، اضمحلت فيه هذه القيادة (من أن الأصح القول أنها مرت بفترة تحلل بطيئة وقاسية)، يوم 5 ديسمبر هو اليوم الذي وقعت فيه هذه القيادة على ورقة استقالتها اليائسة من موقعها التاريخي.
ولم يكن الأمر هكذا، بسيطاً ميسوراً، إن هذه القيادة المفترضة تعاني في ذاتها من تناقضات غير قابلة للشفاء. عندما انطرح شعار اللاءات الثلاثة لأول مرة من لا مكان، من لا أحد، أي من الوعي الجماعي للحركة الثورية، برز وقتها كصيحة غريبة: من الذي يفكر الآن في التفاوض؟، كان الشعار وكأنه قول معروف لا معنى له Tautology، وحتى أن قسماً منها، هو الرباعي الباقي من قوى إعلان الحرية والتغيير قد تبنى هذا الشعار الثلاثي (لا تفاوض، لا شراكة، لا شرعية) ضد عودة رئيس الوزراء في نوفمبر 2021م (مع أن هذه العودة رتب لها وأخرجها إعلامياً القسم الآخر من هذه القيادة الممول دولياً وبدعم من بعثة الأمم المتحدة، ولكن هذه مسألة أخرى). وبقيت طوال سنة كاملة تحاول التنصل من فعلتها (المتهورة؟)
هذه.القيادة التي وقفت على رأس العملية الثورية تعيش على شيئين، وتنقسم شرائحها تبعاً لذلك. قسمٌ على المنح الخارجية، والآخر على عقود الدولة، كلاهما. إذا أردنا تشخيص مصدر الرزق لقلنا أنه من الخراب وإدارة الخراب: من الفساد الممول من الميزانية العامة ومن ترقيع الخراب الناجم عن الفساد، إنها تعيش لتسبب بكارثة، فهي تنهب الموارد العامة تحت يافطة خفض الإنفاق على الصحة والتعليم وتشجيع الاستغلال الوحشي للعمل والنهب المحروس بالسلاح، ويعيش قسمها الآخر من حل الكارثة، من العمل الاحترافي في الإغاثة والمعونات وتقديم الاستشارات لمؤسسات الحكم حول السبل المثلى والمتحضرة للاستغلال، بديلاً عن الغشومية السائدة اليوم. ومن موقعها المتذبذب هذا، تحتاج إلى الدخول لمناصب الدولة من جهة، كي تنهب مباشرة، وأن تنتقد أداء الدولة الناهبة، كي يتسنى لها إدخال يدها في جيب المانحين أيضاً. من هنا تبدأ الضرورة في فرض حدودها الموضوعية: لا يمكن لهذه الجماعة الدخول إلى الدولة إلا بتصعيد المجابهة ضدها، حتى يرضخ الممسكون بزمام الأمور للضغط ويقبلوا بإعطائها بعض المواقع السيادية المولّدة للعوائد حيث يتمرّغ الموظف في نعيم الحكم وينهب كما شاء، ومن المستحيل، من جهة أخرى، أن يتوفر الضمان الكامل بأن هذه التعبئة لن تخرج عن التحكّم وتبدأ في خلق أهدافها الخاصة بعيداً عن هذه القيادة. بينما الشق الآخر العامل في إدارة الخراب آمن نسبياً من هذه التقلبات، فلن تتوقف المعونات مهما كانت الظروف، ومع ذلك، فإن اندفاعية قيادة قوى الحرية والتغيير يمكن أن تخرج العفاريت من القمقم، وأن تولّد حركة أشد جذرية تطالب بالقضاء على الاستغلال وإدارة الاستغلال في آن واحد، وهنا، يظهر دور القسم الثاني في العملية. الدور السياسي لا يقل أهمية عن الدور الإغاثي. تبدأ دورة من عمليات التأثير على الثوار، تقول في مضمونها: ليس هدف الثورة القضاء على القديم بل التعايش مع السيء فيه وتخفيف تبعاته الأسوأ، لا أكثر. الأول يدفع، والثاني يكبح. إن هذه الجماعة القائدة، بقسميها، لا تساهم في البناء الثوري، ولكنها تقفز فوق قيادته، لا تنتج الثروة، إنما تنهبها، لا تخلق فكراً جديداً، بل تستلف وتغرف وترقّع ما يفيد إبقاء الوضع كما هو عليه. هل نكون ظلمناها بعد هذه الصنائع كلها بإطلاق وصف “الطبقة المترممة” عليها؟ والرَّمَّامُ : القَشَّاشُ الذي يَقُشُّ أرذَلَ الطعام وما سَقَط منه ليأكله، ولا يتوقَّى قَذَرَه كما قالت الأعراب وكأنها تصف القحاتة.
في النهاية، أثبت التقييم العملي أن الاستمرار في لعبة التصعيد-الكبح المزدوجة مستحيل، خرجت الطبقة المترممة من قيادة الثورة نهائياً، بقرار منها، فرضته عليها الظروف، أي إرادات أطراف أقوى منها، وهم الشارع الثوري وسلطة كبار الضباط: القطبان المتناقضان في المرحلة الثورية الماضية. واختارت أن تترك الطموح بتعظيم حصتها، وتكتفي بما سيأتيها من صدقات. السؤال الأهم الآن: لقد خرجت الطبقة المترممة من قيادة الثورة، ولكن هل بقي شيء منها في أفكارنا، وتكتيكاتنا، وسياساتنا، لا يزال حياً؟ إذا كانت الإجابة بـ”نعم”، هذا يعني أن خروجها سيكون مؤقتاً، وإلى عودة، تكون فيها أشد بطشاً. إن إعادة التسلح الفكري، أي تطوير أفكارنا بما ينقيها من المرحلة الماضية وتناقضاتها، هو واجب عاجل، وطويل، لأنه المدخل لما سيأتي من خطط ينبغي لنا إنفاذها.
يتبع، ما بعد التسوية (4): اليمين وتناقضاته