خلال الأسبوع الأخير من يناير قام البرهان بثلاثة خطوات متسارعة. تشكيل اللجنة الإشرافية العليا لتشغيل وتطوير ميناء أبوعمامة، تمرير موازنة 2023م، واستقبال وزير خارجية الدولة الصهيونية.
تقرأ هذه الخطوات من زوايا مختلفة. الزاوية الصحيحة الوحيدة للنظر تشي إلى أن البرهان، ومن خلفه الطبقة الحاكمة، يتسارعون لهاثا من أجل فرض حقائق على ساحة البلاد، حقائق راسخة وصلبة، يكون من شبه المستحيل تغييرها، بل الحل شبه الوحيد هو المناورة حولها. إن البرهان، باختصار، يقوم بفرض قواعد وقوانين اللعبة، ويرسم الميدان. الفكرة الرئيسية التي تحركه هي أنه بعد إتمام هذه الخطوات سيكون في مقدوره، وبكل طمأنينة، أن ينسحب إلى مصاطب المتفرجين، ويقزقز التسالي وفول الحجات والبلح، ويتفرج على ما يجري، ويصفق للعبة الحلوة، دون قلق من أن النتيجة ستؤثر على مصالحه بأي شكل من الأشكال. وهذه هي “مدنية العسكر”.
لمن يتذكر، قبل بداية التفاوض بين ما تبقى من قوى الحرية والتغيير والبرهان في يوليو 2022م، وضع البرهان ثلاثة ثوابت رئيسية قال انه لن يقبل اي تدخل فيها، لخصها في العلاقات الخارجية وبنك السودان المركزي وإصلاح الأمن والجيش. طبعا، ومع حملة تضليل مدروسة، سُحبت هذه الأجندة من التداول العام واصبحت حديث المكاتب المغلقة، وطرحت في أسواق الكلام والصحف كلام طلس عن “التحول الديمقراطي” وأخوه “العدالة الانتقالية” و”الحكومة المدنية”، وضمانات الاتفاق والتعهدات، وترافق ذلك مع الكثير من الفلاشات والكرافتات والعمم المكربة والبسمات والدبابير اللامعة على الأكتاف. التفاوض حول التسوية تفاوضان: واحد أمام الجمهور، لكل طرف فيهم دور، والثاني وهو الحقيقي، يتم بهدوء وبعيدا عن الأضواء. البرهان، بتحركاته خلال الأيام الماضية، حصل على السيطرة الكاملة على مطلبين ونصف من مطالبه الثلاثة، لا بالاقوال، بل بالأفعال، وبصدمات سريعة متتالية بحيث يعجز الذهن عن استيعاب ماجرى بالسرعة اللازمة لاتخاذ الأفعال المضادة.
في 30 من يناير، أصدر البرهان قرارا بإنشاء اللجنة الإشرافية العليا لتشغيل وتطوير ميناء أبوعمامة. تكاد تكون تركيبة اللجنة مختصرا لتوازن القوى في البلاد. ضمت اللجنة البيروقراطية العليا ممثلة في وزيري المالية والنقل، رأس المال “الوطني؟” في شخص أسامة داؤود مالك دال قروب أكبر احتكار غذائي في البلاد، والفريق-أفندي إبراهيم جابر عن كبار الجنرالات “والفريق لمن لا يعرفه جامع الحسنيين، فهو خريج من جامعة الخرطوم والكلية الحربية في آن واحد”، إضافة إلى مدير شركة موانئ أبوظبي الممولة للمشروع.
هذا “المربع الذهبي” أضلاعه البيروقراطية الحكومية، والجنرالات العظام، والجلابي المحلي الوكيل، ورأس المال الدولي، هو الحلف الحاكم اليوم، بل منذ نهايات عصر البشير مرورا بزمن حمدوك. ميناء أبو عمامة، لا سواه، هو الحدث الكاشف الذي وضع صيغة الحكم هذه عارية مكشوفة على مرأى من الجميع.
في الأول من فبراير، مرر البرهان موازنة 2023م بعد شهر من بداية السنة المالية. هذا درس عن “حكم القانون”، خلال هذا الشهر أجريت زيادات على رسوم حكومية، وسارت ماكينة الدولة لا تلوي على شيء، جبايات وكشة وغرامات وهلم جرا. لن تعدم الدولة من تخريجات قانونية لتبرير أفعالها، ولكن القضية أكبر من ذلك: صيغة الحكم التي تعد بها قوى “المربع الذهبي” لن تحتاج إلى اللغلغة القانونية لتبرير أفعالها، دليل إضافي؟ انظر لتجار عربات البوكو حرام الذين قالات عنهم الدولة أنهم خالفوا القانون بجلب عربات بلا مواصفات، وصادرتها منهم، لتعيد توزيعها على أجهزتها وهيئاتها وافرادها، في أكبر عملية 9 طويلة في تاريخ البلد. القضية الثانية تتعلق بمصير حكومة قوى الحرية والتغيير القادمة. بهذه الموازنة، هي محكومة، منذ الآن، بحدود مالية ونقدية، ليس لها الحق في تعديل أولوياتها وبنود الصرف والجباية فيها. إذن، هي حكومة مقيدة اليدين، منذ الآن. ولن تستطيع إنجاز فعل اقتصادي واحد ذي مغزى، لا زيادة في الحد الأدنى للرواتب، لا انفاقا في المياه أو المعاشات. وهنا، يحدد البرهان أيضا الملعب، ويقول: لن تتمكن “الحكومة الانتقالية المدنية ذات القاعدة العريضة ذات المصداقية” كما تسمى في الإعلام من سحب جنيه واحد من موازنة الجيش أو الدعم السريع، بل ستنفق من تصريحات خالد سلك بعض الوعود هنا وهناك. وهذه موازنة “مدنية العسكر”.
يوم أمس ٢ فبراير، وصل وزير الخارجية الصهيوني إيلي كوهين إلى الخرطوم وقابل البرهان. ما قاله في ختام زيارته هو المهم. “سيتم توقيع اتفاق سلام مع السودان بعد تكوين الحكومة المدنية القادمة”. فيم كانت الزيارة إذن؟ إذا كان التوقيع مؤجلا؟ كانت من أجل تربيط الاتفاقيات وحسم التفاصيل النهائية، بينما تترك المراسم الشكلية لوقت لاحق، لا يهم متى. تقرأ خطوة البرهان هذه في إطار اصراره على أن يتولى الجيش “قضية الإصلاح الامني والعسكري بنفسه بعيدا عن السياسيين” في تصريحات متكررة صدرت عنه. مغزى كلامه هو أن كبار الجنرالات وحدهم، أي هو وحده، له الحق في إعادة التصرف في الجيش بما يخدم الأهداف التي “يراها” هو مناسبة. الاندماج في الأحلاف العسكرية الإقليمية، ولعب أدوار يكلف هو بها ضمن عمليات حفظ الاستقرار الإقليمي، هذه غاية طموح البرهان. ولا تفهم مسارعته لزيارة تشاد والنزاعات في افريقيا الوسطى الا من هذا المنظور فقط. مع ما يعنيه ذلك من تقوية الأذرع الاقتصادية وفتح المجال لمزيد من الصفقات التي يستفيد منها حصرا كبار الجنرالات. على العموم، إذا احتاج جيش الاحتلال الاسرائيلي لاقتحام نابلس، يمكنها أن تستعين بجماعة جاهزية-سرعة-حسم من مليشيات حميدتي، وكله بحقه.
نفرض الحقائق على الأرض وبعدها نأتي الى التفاوض: هذا تكتيك صهيوني معروف، وهاهو البرهان يعيد تنفيذه. تثبيت القواعد العامة وترك الخلافات للتفاعل ما دام أنها لا تخرق “الخطوط الحمراء” و”الحقائق” التي تم إرساؤها للتو. احتجاج الكيزان والبعث على زيارة كوهين يدخل ضمن إطار الكلام الذي لا يضر، بل هو ضروري من أجل الاخراج النهائي للمشاهد. فلا يريد أي طرف من المحتجين، فعلا لا قولا، الإطاحة بسلطة المربع الذهبي الحاكم والمحروس بسلاح الجو الاسرائيلي والمدرع بدبلوماسية الترويكا. إن هو إلا تنفيس للغضب، والادعاء بأن هناك نوعا من الحرية للتعبير. وبرهان، يمكنه الآن إن يعود إلى الثكنات، ليس العودة التي يريدها الثوار، بل عودة الغانم الكاسب، الذي حصل من القحاتة بالسلام ما عجز عن انتزاعه من الثوار بالسلاح. والتحكم في قواعد اللعبة أخطر وأقوى أثرا من المشاركة في المباراة، هذا مبدأ تعلمه برهان، وما تقبل به قحت، وما يجب علينا، دون مواربة، أن نرفضه.