يحكى أن امبراطور بيزنطة أصدر سنة ٦٤٨ للميلاد مرسوما حظر بموجبه النقاش عما إذا كان المسيح ذا طبيعة واحدة أو طبيعتين، وأي مسائل من هذا القبيل. ورتب المرسوم عقوبات شديدة على المخالفين من طرد للموظفين والكهنة الذين يشاركون في الجدال، ومصادرة الأموال والممتلكات، وحتى العقوبات الجسدية. دفع الإمبراطور لذلك لما رآه من اضطرابات ومشاكل تسببها هذه الجدالات من اقصى امبراطوريته إلى أقصاها، قرر أن المنع هو الحل الوحيد.
من هنا وصلنا مصطلح (الجدل البيزنطي)
لم يكن البيزنطيون مصابين بالجنون. كل جدال مهما بدا لك فوقيا ومجردا وبلا معنى، هو انعكاس بدرجة ما لأزمة اجتماعية أو سياسية موجودة، وكل رأي يعبر عن مصالح جماعة معينة ويحمل رؤيتها للخروج منها. كانوا على صواب في أن يتجادلوا لأن المصالح المتنافرة تعبر عن نفسها بطرق كثيرة، وكانوا مخطئين في اختيار أكثر أساليب الجدال تخلفاً وبدائية، أي النقاش على أرضية غير التي يمكن حل المشكلة عليها.
يكاد الجدال بين قوى الحرية والتغيير والحزب الشيوعي أن يتحول إلى نسخة من جدل بيزنطي عقيم.
الجدال لا يمكن كبته لأنه جزء من ظروف الأزمة، ولا يمكن أيضا تجاهله لأنه بدونه يكون من المستحيل التوصل لحل للأزمة. بقول المسطول محرفاً (الجدال ما كعب، كعب الجدال الكعب)
كيف نجعل من النقاش حول التغيير الجذري والهبوط الناعم يتم بالطريقة الصحيحة؟ أي كيف يمكن للثورة أن تناقش خصومها وحلفاءها لكي تسير خطاها بثبات دون تعثر؟
أولاً، علينا أن نبحث عن المحتوى من وراء المصطلحات. ما الذي تقدمه قوى الهبوط الناعم والتسوية حول إسقاط البرهان ومحاكمته؟ أم أن هذه الاجندة خارج اهتمامها أصلا؟ ما الذي يعرضه من يقولون بالجذرية من جهة أخرى؟ ماهو موقف الثوري الواقعي من الإدارة الأهلية؟ اتصفيتها فوراً أم إصلاحها أو ترك الأمور كما هي؟ ماهو الفرق بين الطريقة التي تصيغ بها الأحزاب برامجها ومواثيقها؟ سواءا تحدثت بالتغيير الجذري أم عن التسوية؟ هل من النقاش القاعدي الصعب أم بقعدات المكاتب والتوقيع أمام الكاميرات؟. لم يكن البيزنطيون قادرين على استخلاص المحتوى من المصطلح، فضاع عليهم الدرب.
ثانياً، الحلاقيم ليست أسلوب الجدل الموضوعي. يدور معظم الجدال الآن في اللايفات والندوات المبثوثة على الاسافير. وتستخدم تكتيكات مسرحية غير مفيدة تزيد المحتوى هزالاً. الكلمة المكتوبة فقط، حيث لكل كلمة وزنها وهدفها، هو ما يمكن أن يحسن من درجة الجدال ويكشف المحتوى الحقيقي لصراع المصالح الذي يختبئ وراء الألفاظ. الجدل الفكري مسألة شديدة الخطورة ويجب أخذها بجدية. يجب أن يكون موثقاً ودقيقاً مثل دقة عقود البيع والشراء، بل وأكثر.
ثالثاً، ما العمل؟ كيف نحقق مانريد، وكيف؟ وتحت قيادة من؟
الصراع الحالي يتم بدون هذه الاشتراطات. هو شفاهي حتى الآن، مبتذل، يتم بالتفاوض وأساليب الصفقات التجارية، بدون أدوات إلا في إطار العموميات، ويتجاهل التاريخ ويحاول القفز عليه أو التعتيم على الحقائق. أي متابع يرى الآن انحدار الجدال نحو القاع، وقريبا ربما سنرى تحول المفاهيم التي يخترعها البشر للتصنيف والفهم إلى شتائم، نتمنى أن نتجنب هذا المصير، وأن لا تصبح «زول هابط هبوط ناعم» و«جذري ساي» صيغة تنابذ بالنعوت في السوق السياسي.
خضنا من قبل هذه المحنة. فقد ادخل الكيزان كلمة إسلامي في كل شيء لهم فيه مصلحة. قرض ربوي؟ سميه مرابحة إسلامية، والدستور الإسلامي، وهكذا. والامثلة كثيرة. وكلما حاول طرف كشف محتوى هذا الشعار والمصالح التي تقف وراءه فهو علماني كافر…. الخ الخ. ليس الأمر حكراً على الكيزان، الهروب من محتوى الألفاظ وتقفيل الافواه من الجدال الفكري هو من أساليب الديكاتورية المحبذة. هل يدل مستوى الجدال الحالي على شيء؟ نعم، وهو أن شيئا متعفناً يحاول البعض دسه في حماسة الكلام والالفاظ، وكشفه من كشف الثورة المضادة وخططها.
استمر البيزنطيون في جدالهم ٧ قرون بعد مرسوم الامبراطور، وكل شيء يتحطم ببطء. حتى عندما كان الغزو على الأبواب ظل مجلس شيوخ المدينة يناقش ما إذا كان الملائكة ذكورا أم من الإناث، وهل إبليس كبير بما يكفي لأن يكون في كل مكان أم أنه صغير بحيث يدخل من ثقب إبرة؟ مات الامبراطور على أبواب المدينة والجدال لم يحسم في الغرف بعد. يا أهل الجذرية، احسنوا إليها وتجنبوا النقاش حول جنس الملائكة!. أما العمل بموجبها فلا يتوقف أبدا.